سيكولوجية الكذب .. والكشف عن المكر والخداع

              

 أ. م. عادل عبد الرحمن صدِّيق الصالحي
 أستاذ علم النفس الإكلينيكي المساعد
   مركز البحوث النفسية

         

   مقدّمة الكتاب

بطبيعة الحال، فأن كلّ واحد منّا يعرف كيف يكذب… وكيف يقول الكذب والأكاذيب، من دون أن يُكتشف غالباً… وبطبيعة الحال، فأن كل واحد منّا يستطيع خلق الأعذار الكاذبة عند التأخر عن العمل مثلاً، أو عند التأخر عن الدرس، أو في أي موقف آخر… وبذلك نحن نتفق مبدئياً على أننا نكذب… شئنا أم أبينا.. على أنفسنا أحياناً، وعلى غيرنا أحايين أخرى.. فكل منا يكذب على الآخر من دون أن يعلم، حتى أنه يكاد يكون كذباً يومياً بديهياً، أو أن بعضنا قد يكذب من أجل الكذب فقط.. وبذلك أصبح بعضنا يتفاجئ عند سماع الصدق لا الكذب، ولعلّ المفجع في الأمر أن قول الصدق أصبح أحياناً لا يصدّق..! فهل سألتم أنفسكم عن آخر مرّة كنتم فيها صادقين..؟، أو متى كانت آخر مرة لم تمارسوا الكذب فيها..؟ ومن يزعم غير هذا فهو كاذب…
لكن… ماذا يحدث عندما يتمّ الكذب علينا نحن أنفسنا… ونودّ معرفة الحقيقة… ومن هو الكاذب – إن وجد..؟ وما هي وجهة نظر علم النفس بمدارسه ونظرياته المختلفة في هذا الموضوع؟ وما هي آراء العلماء والباحثين والمتخصّصين والجمعيات التخصّصية العالمية؟ وهل أن الكذب موجود لدى الكائنات الأخرى…؟ أم أنه صفة ملازمة للكائن البشري فقط…؟؟ وما هو موقف الدين والديانات المختلفة من الكذب والكاذبين؟… وهل توجد طرائق علمية لمعرفة الكذب؟ وما هي الأجهزة المستعملة في كشف الكذب؟ وكيف… ومتى.. وأين.. ولماذا؟ … وما إلى ذلك من تساؤلات يطول تبويبها، ويسهب عرضها وشرحها…
وإذا أردنا يوماً أن نعرف مثلاً.. هل أن صديقنا المقرّب منّا كان في سفرة خارج البلد حقاً يوم عيد ميلادنا؟، أم أنه فقط قد نسى التأريخ ثانية…. وهل أن تاجر السيارات أو صاحب معرض السيارات الذي نريد أن نبتاع منه سيارتنا الجديدة قد أعطانا سعراً عادلاً ومعقولاً؟، أم أنه يحاول فقط أن يستنزف بضعة دولارات أخرى إضافية منا؟
وبطبيعة الحال أيضاً… فإننا لا نستطيع أن نربط كلّ “مشتبه به” أو كل من نشك بكلامه وأقواله إلى أحد أجهزة كشف الكذب أو البوليغراف Polygraph… وبهذا فقد لا نستطيع معرفة الحقيقة أبداً، إلا إذا كنا طبعاً نعرف كيف نميّز ونحدّد الكذب عن طريق الخبرة والفراسة ودقّة الملاحظة… أو عن طريق الأنف عندما يطول مثل أنف (بينوكيو Pinocchio)( ) – الشخصية الأسطورية المعروفة – وذلك عن طريق تشخيص السلوكيات الرئيسة عند الكذّاب العادي، آخذين بنظر الحسبان أنّ هذه النصائح قد لا تكون بالضرورة صحيحة بالنسبة للبعض من المحامين أو السياسيين!!
ولذلك نجد أن لأجهزة كشف الكذب فوائد عظيمة، فهي تمتدّ من معرفة الخيانة الزوجية… وصولاً إلى معرفة الإرهابي القاتل. فالمعروف أن جهاز كشف الكذب (البوليغراف) ما هو إلا جهاز لقياس بعض المتغيرات الفسيولوجية مثل معدّل نبضات القلب، وضغط الدم، ومعدّل التعرّق، والتنفّس.. وعن طريق مقارنة تلك المعدّلات الأربعة، يمكن للخبراء والمختصّين أن يعرفوا ما إذا كان الخاضع لجهاز البوليغراف يكذب أم لا..! وأحياناً فأنه بمجرد التلويح باستعمال أجهزة كشف الكذب بشكل عام، والبوليغراف بشكل خاص يمكن للمحقّق استدراج المتهم العادي ودفعه إلى الاعتراف من دون عناء…
ومن الجدير بالذكر… أنه ليس بالضرورة أن تكون كذّاباً لكي تكون قادراً على تمييز الكذّابين. ومع ذلك، فمن المهم جداً أن تكون قادراً على معرفة أي كذّاب محتمل. ومن المفترض أن تمتلك القدرة دائماً على معرفة ما إذا كان شريك حياتك يكذب، أو إن كان صديقك المفضّل يكذب، سوف تكون دائماً قادراً على المراهنة على صدق ما يقال من زميلك في العمل، وقبل كل شيء، علينا أن نتذكّر أنّ هدف أيّ تاجر للسيارات أو صاحب معرض للسيارات هو أن يربح بضعة آلاف إضافية ليثري على حسابنا الخاص!!
ومن أجل أن تكون قادراً على التكهّن عندما يتمّ الكذب عليك مباشرة، يجب عليك أن تعرف الشخص المقابل جيداً. فإذا كان سلوك صديقتك غير عادي، على سبيل المثال، فأن هذا يعدّ مؤشّراً واضحاً لا لبس فيه على أنها تخفي شيئاً عنك تحت قبعتها، أو في حقيبة يد جديدة اشترتها تواً.
دعونا نقول على سبيل المثال، إنّ إحدى زميلاتنا أو زملاؤنا في العمل، أو إحدى زميلاتنا أو زملاؤنا في الدراسة، شخص نشط.. مفعم بالحياة، لكنه يميل إلى التحدّث بشكل سريع جداً.. ولا يعطينا فرصة لا إلى الاستماع إليه جيداً، ولا إلى التحدّث إليه بالمقابل. وفي إحدى السفرات السياحية مثلاً، نجده يجلس بالقرب منا…  ذراعيه متشابكة.. وعلى غير عادته، نجده يتحدث أبطأ من المعتاد!!! إن هذا السلوك غير المعتاد قد يشهد على حقيقة مهمة في حياتنا… مفادها أننا قد لا نكون نعرف كلّ شيء كما ندّعي… ولسنا على قدرٍ من الفطنة والبديهة التي تخوّلنا الحكم على الناس الآخرين من مواقف معيّنة… والأكثر من ذلك، فأن زميلنا أو زميلتنا، لا يستطيعون مواصلة النظر في أعيننا مباشرة أثناء تحدّثهم معنا أحياناً… 
وفي إحدى الأيام، وعند مواصلة الحديث مع ذلك الشخص، هل لاحظتم كيف أن تحديقه بنا مباشرة في أعيننا كان قد بعث فينا الملل والسأم…. ناهيك عن التذبذب والتأرجح في شخصيات وسلوكيات من نعرف!! وغير ذلك الكثير… أذن هل من المرجح أن كل ذلك يبعث فينا الرغبة الملحّة والإصرار في مواصلة التحقيق للحصول على الحقيقة كاملة، غير منقوصة، عن ذلك الشخص في هذه المرحلة بالذات… والآن على وجه التحديد، وهل سترغبون في معرفة كذب ذلك الشخص من صدقه؟!
ولذلك نستطيع القول أنه عادة يميل سلوك الكذّاب إلى عدم الانتظام، لأن الكذّاب بطبيعته لا يتّسم بالهدوء، أو أنه قد يشعر بالذنب، أو قد يجهد أفكاره وذهنه من أجل إعداد وتطوير كذبة جديدة كل مرّة، لاسيما حينما يتحدث إلينا.
ووصيتي… أنّه عند التأكّد من أن صديقك يكذب، لا تكن متسرعاً وتصرخ “كذّاب كذّاب”، بل تماشى معه وألعب لعبته… فالكذّاب لن يعرف أنه قد فضح أسلوبه في الكذب، سوف تكون قادراً على قول الحقيقة وفضح أيّ كذب في أي وقت…
كما أن رصانةَ هذا العلم – القديم الجديد – في الكشف عن الكذب، وهذه التقنية الجديدة ومدّها ورفدها بكل ما هو جديد ومتجدّد، من العلماء والمعنيّين والمحبّين والمستفيدين، سوف يُسهل في المستقبل القريب إن شاء الله عملية تعميمها لتكون تقنية من تقنيات التحقيق تستهدف الحدّ من انتهاك حقوق الإنسان، فضلاً عن توفير تقنية من تقنيات وأساليب معاصرة تنهي آلام المتهمين من الأبرياء ومآسيهم، وفي الوقت ذاته تساعد في الكشف عن المتهمين من المذنبين والمجرمين لكن من دون الحاجة إلى تعذيب…!
وختاماً أترككم للتمتع بقراءة صفحات هذا الكتاب داعياً المولى عز وجلّ أن ينال رضائكم واستحسانكم.. لاسيما أن هذا الكتاب يعدّ جديداً بعنوانهِ ومضمونهِ بالنسبة للقارئ العربي… وما توفيقنا إلا بالله عز وجل، فأن أخطأنا فمن أنفسنا، وإن أصبنا فمن الله سبحانه وتعالى، {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}( ) صدق الله العظيم.
  والله من وراء القصد.
          المؤلِّف


Comments are disabled.